التمكين الحقيقي أشبه بسيمفونية متناغمة بين دولة ترعى، وفرد يجتهد، وقطاع خاص يساند. وعلى أنغام هذه السيمفونية الرائعة، يمكننا معاً أن نسير بخطى واثقة نحو مستقبل أكثر إشراقاً وتمكيناً للجميع.
لطالما ارتبط مفهوم "التمكين" بفكرة العطاء من طرف واحد؛ جهة عليا تقدم للأفراد ما يحتاجون من موارد وأدوات لكي تمكنهم من تحقيق أهداف معينة. لكن هذه النظرة، على أهميتها، تبقى غير مكتملة. فالتمكين الحقيقي ليس منحة، بل هو أشبه بالحوار، أو الشراكة النشطة. إنه مسؤولية مشتركة تتعمق مع الزمن لترسم ملامح مجتمع حيّ قادر على صنع مستقبله.
بهذا الفهم، يمكن القول إن التمكين الاجتماعي هو دائرة متصلة من الفعل الإيجابي البناء، وهو في الحقيقة طريق ذو اتجاهين؛ فبينما تعمل الحكومات على تمكين أفرادها، ينهض الأفراد الواعون لتمكين مجتمعاتهم.
هذه الفلسفة تتجلى بوضوح في استراتيجية "وزارة تمكين المجتمع"، حيث لا تقتصر رؤيتها على تقديم الدعم، بل تعمل على بناء "مجتمع متمكن يشارك أفراده في بناء مستقبل مزدهر للوطن". هذه الرؤية تشكّل نقطة انطلاقنا لفهم أبعاد طريق التمكين الاجتماعي بما يمتاز به من ثنائية الاتجاه.
الاتجاه الأول: الحكومة كرافعة للتمكين
تضع الحكومات الرائدة حجر الأساس لمجتمع التمكين من خلال منظومة متكاملة لا تترك أحداً خلف الركب. ويتجسد هذا الدور في ثلاثة محاور رئيسية، كما نرى في النموذج الإماراتي:
دعم اجتماعي يحقق الكرامة والاستقرار: في هذا الإطار يمكن القول إن شبكة الأمان الاجتماعي هي أكثر من مجرد مساعدات مالية؛ إنها رسالة مفادها أن الدولة تقف خلف كل فرد. لذا، فإن "وزارة تمكين المجتمع" تهدف من خلال استراتيجيتها الجديدة إلى "رسم مسار للأفراد والأسر نحو حياة مزدهرة من خلال دعم شامل يحقق الأمن والاستقرار". ويشمل ذلك مبادرات مثل "برنامج الدعم الاجتماعي" الذي يقدم مساعدات مالية ويدعم الأسر في مواجهة التضخم. وإذا كان هذا الدعم يوفر للأفراد أسباب عيشهم اليومي، فإن الهدف الحقيقي يتمثل في توفير قاعدة صلبة ينطلق منها الفرد نحو الاعتماد على الذات والمساهمة الفاعلة.
إطلاق طاقات القطاع الثالث (مؤسسات النفع العام): تدرك الحكومات المبتكرة أن قوتها الحقيقية تنبع من المجتمع نفسه. ويعدّ القطاع الثالث، الذي يتألف أساساً من مؤسسات النفع العام والجمعيات الأهلية، بمثابة القلب النابض للمجتمع. لذا، تعمل الدولة على "تعزيز أثر القطاع الثالث في تحقيق الأولويات الوطنية". ويتم ذلك من خلال مبادرات استراتيجية مثل:
• المنصة الموحدة لمؤسسات القطاع الثالث: لتسهيل تسجيل وإدارة هذه المؤسسات بكفاءة.
• مسرّع الأثر الاجتماعي: الذي يزود المؤسسات بالتمويل والمعرفة والأدوات اللازمة لتعظيم أثرها، بحيث لا تعود هذه المؤسسات مجرد جهات تتلقى الدعم، بل تصبح شريكاً استراتيجياً في التنمية الاجتماعية والاقتصادية.
ترسيخ ثقافة العطاء والعمل التطوعي: يكتمل التمكين عبر ترسيخ قيم المسؤولية المشتركة. لذا، تعمل الدولة على "تطوير بيئة قائمة على المسؤولية التكاملية، بما يتضمن ترسيخ قيم الانتماء والعطاء". وتعمل حكومة الدولة على إرساء هذه الثقافة الحضارية من خلال مجموعة من المبادرات المجتمعية مثل "منصة التطوع" التي تتيح للجميع فرص خدمة المجتمع، و"منصة جمع التبرعات" التي تقوم على مبدأ الشفافية والأمان. إن طموح الإمارات للارتقاء في "مؤشر العطاء العالمي" ليس مجرد هدف رقمي، بل هو انعكاس لإيمانها بأن قيمة المجتمع تقاس بمدى عطاء أفراده.
الاتجاه الثاني: الفرد كمحرك للتمكين
هنا ينعكس الطريق، ومع هذا الاتجاه الانعكاسي تكتمل دائرة التأثير. فالدعم الحكومي يظل ناقصاً ما لم يقابله فردٌ واعٍ ومبادر، يأخذ بزمام الأمور ليساهم في تمكين نفسه ومجتمعه. هذه المسؤولية الفردية هي ما يحول الطاقات الكامنة إلى قوة إنتاجية حقيقية. ويتجلى دور الفرد في عدة جوانب:
• التعلم الذاتي والمستمر: في عالم اليوم، حيث المعارف والتقنيات تتطور بسرعة فائقة، يصبح التعليم المستمر أداة التمكين الأقوى. إن الفرد الذي يسعى لتطوير مهاراته باستمرار لا يضمن استقلاليته المالية فحسب، بل يساهم في بناء مجتمع منتج ومزدهر، وهو أحد الأهداف الاستراتيجية للدولة، متمثلة في استراتيجية وزارة تمكين المجتمع.
• التطوع والمشاركة المجتمعية: التطوع هو الترجمة العملية للانتماء. عندما تتيح لك الحكومة منصة للتطوع، فإن مشاركتك هي ما يبث فيها الحياة. إن التحلي بثقافة التطوع هو السمة الأبرز للأشخاص المؤثرين الذين يمثلون قدوة لمحيطهم الاجتماعي وللأجيال اليافعة.
• المشاركة الإلكترونية والانفتاح التكنولوجي: تتيح لنا التكنولوجيا الحديثة أدوات غير مسبوقة للمشاركة. وسواء كان ذلك بإبداء الرأي في السياسات العامة، أو اقتراح تحسينات على الخدمات الحكومية الرقمية، أو المساهمة في المحتوى المعرفي، فإن المواطن الرقمي الفاعل هو شريك في رسم استراتيجيات تستجيب لتغيرات المجتمع وتضع الإنسان في المقدمة. في هذا السياق لا ننسى أن دولة الإمارات من الدول المقدمة في مؤشر المشاركة الرقمية، حيث تحتل المركز 18 عالمياً بحسب مؤشر الأمم المتحدة EPI.
• نشر ثقافة الابتكار: الابتكار ليس حكراً على الشركات الكبرى. كل فرد يبتكر في عمله، أو يبدأ مشروعاً صغيراً، أو يجد حلاً لمشكلة في محيطه، هو مساهم مباشر في التنمية الوطنية. إن مبادرات مثل "برنامج ريادة الأعمال" الذي يوفر حلولاً تمويلية وموارد للمشاريع الناشئة، تنجح فقط عندما يقابلها أفراد يملكون الجرأة على الحلم والتنفيذ.
دور القطاع الخاص
هذه الفلسفة التشاركية ليست مجرد رؤية نظرية، بل هي سر نجاح العديد من الأمم. وهنا يبرز دور القطاع الخاص كضلع ثالث في مثلث التمكين. فهو ليس مجرد محرك اقتصادي، بل هو جزء لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي. من خلال مسؤوليته المجتمعية، وتوفير بيئات عمل محفزة، وشراكته مع مؤسسات القطاع الثالث، يساهم القطاع الخاص في تحقيق الأهداف الوطنية ويشارك بفعالية في مسيرة صنع المستقبل.
خلاصة القول
التمكين طريق حضاري ذو اتجاهين، في اتجاهه الأول ثمة حكومةٌ داعمة تعمل من أجل أفراد واثقين ومنتمين ومسؤولين. وفي اتجاهه الثاني هنالك أفرادٌ مبادرون يبنون مجتمعاً قوياً ومبتكراً يمكّن الدولة والقطاع الخاص من تحقيق المزيد من الازدهار.
إنها مسؤولية مشتركة، وسيمفونية متناغمة بين دولة ترعى، وفرد يجتهد، وقطاع خاص يساند. وعلى أنغام هذه السيمفونية الرائعة، يمكننا معاً أن نسير بخطى واثقة نحو مستقبل أكثر إشراقاً وتمكيناً للجميع.