تعد جائحة فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) حالة استثنائية لم يشهدها قطاع الجمارك في العديد من الدول طوال تاريخه. وعلى الرغم من التداعيات السلبية الكبيرة لتلك الجائحة على الصحة العامة والاقتصادات الوطنية ومعدلات النمو والاستقرار الاجتماعي في العالم، فإن لها إيجابيات سيكون لها أثرها الكبير في مستقبل العمل الجمركي في العالم أجمع.
ومن أبرز إيجابيات تلك الجائحة تسليط الضوء على الدور المهم لقطاع الجمارك في دعم المنظومة الأمنية لأي مجتمع والحفاظ على استقراره وحمايته من المخاطر الخارجية، وكذلك دوره المهم في تيسير حركة التجارة وتوفير احتياجات المجتمع من المواد الأساسية والسلع الضرورية في وقت الأزمات، إضافة إلى دوره في تحفيز الاقتصاد ودفع عجلة النمو عبر تقديم التسهيلات للتجار والمستوردين والمصدرين في أوقات الطوارئ والأزمات.
لقد كانت جائحة كورونا اختباراً حقيقياً لمنظومة العمل الجمركي في العالم، وتكمن خطورة تلك الجائحة في استهدافها العمود الفقري للعملية الجمركية وهو الموارد البشرية أو الإنسان. وقد أثبتت التجربة نجاح قطاع الجمارك في الدولة والعالم في هذا الاختبار بامتياز من خلال اتخاذ التدابير الاحترازية واعتماد خطط مرنة لضمان استمرارية الأعمال وحماية العنصر البشري من المخاطر، وفي الوقت نفسه حماية المجتمع وضمان استمرار حركة التجارة بمعدلاتها الطبيعية، الأمر الذي ساهم في دعم صمود الاقتصادات الوطنية في مواجهة الفيروس.
تؤكد القراءة المتأنية لتداعيات جائحة كورونا والدروس المستفادة منها أن الجمارك ما بعد كورونا لن تكون كالجمارك قبلها، فالجائحة ستكون لها تداعياتها على استراتيجية العمل داخل قطاع الجمارك في الدولة والعالم بعد أن عجلت باعتماد آلية العمل عن بعد كتوجه جديد للعمل في قطاع الجمارك، وهي الآلية التي ستكون لها آثارها الإيجابية في العديد من المحاور المتعلقة ببيئة العمل ونوعيته والخدمات المقدمة وقنوات تقديم تلك الخدمات والتكنولوجيا المستخدمة، إضافة إلى آثارها على عدد من المحاور المجتمعية كتخفيف الزحام المروري وغيرها من المحاور.
ومن المؤكد كذلك أن الجائحة ستدفع إدارات الجمارك العالمية إلى إعادة النظر في مفهوم الأمن الجمركي وإدارة المخاطر الجمركية وتوسيع نطاقها لتشمل الطوارئ والأزمات والكوارث الطبيعية ومعايير الصحة والسلامة الخاصة بالعاملين في الجمارك، وربما نشهد على المدى القصير تعزيزاً لدور الجمارك في مجال حماية أمن المجتمع من المخاطر والتهديدات الخارجية المرتبطة بحركة التجارة عبر دعم وتقوية الكيانات والإدارات الجمركية في العالم وتوفير أحدث الأدوات والأجهزة الجمركية اللازمة، إضافة إلى تعزيز التعاون الجمركي الدولي في مجال إدارة المخاطر الجمركية بشكل أكثر فاعلية مما هو متعارف عليه حالياً.
وأيضاً سيتم اتخاذ إجراءات فعلية لتحويل المنافذ الجمركية إلى منافذ ذكية يتم التحكم فيها والرقابة عليها عبر تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي وتقنيات الثورة الصناعية الرابعة، إضافة إلى اعتماد الخدمات الإلكترونية والذكية كمنهج أساسي لتقديم الخدمات الجمركية من خلال أتمتة الخدمات كافة، والاعتماد أكثر على التكنولوجيا كأداة ووسيط فعال بين الإدارات الجمركية والمتعاملين، فضلاً عن الاعتماد على الأجهزة المتطورة وتقنيات الذكاء الاصطناعي في إنجاز العمليات الجمركية والتفتيش والمعاينة في المنافذ الجمركية، وهو المجال الذي حققت فيه جمارك الإمارات الريادة، وقطعت فيه شوطاً كبيراً حتى أصبحت نموذجاً عالمياً في هذا المجال.
كذلك في جمارك ما بعد كرونا سيكون لقطاعات الجمارك دور كبير في دعم ميزانيات الدول وتحفيز النمو الاقتصادي عبر تقديم الحوافز والتسهيلات الجمركية وتبسيط الإجراءات المطلوبة لإنجاز المعاملات، وربما إعادة النظر في رسوم الخدمات، بهدف تخفيف الأعباء والتكاليف على سلسلة الإمداد والتوريد وزيادة معدلات النمو في المبادلات التجارية والتجارة البينية بين الدول.
خلاصة القول، إن الجمارك ما بعد كورونا ستشهد تغيراً كبيراً على مستوى التفكير الجمركي والأمني الاستراتيجي، فضلاً عن آليات وأولويات ومحاور العمل والاهتمام بالعنصر البشري وتنمية مهاراته ومعارفه استناداً إلى قاعدة التكنولوجيا، وسوف تتجه معظم الإدارات الجمركية في العالم خلال سنوات محدودة إلى ما يمكن أن نطلق عليه مجازاً "ذكننة الجمارك" بمعني تحويل العمليات والمنافذ الجمركية إلى عمليات ومنافذ ذكية بالكامل.